قضى المجاهد أسامة بن لادن نحبه، وأفضى إلى ربه، ونحسبه شهيداً - إن شاء الله تعالى- وقد دئب المؤرخون على كتابة تراجم مفصلة للشخصيات التي كان لها أثر كبير في مجريات التاريخ، وعمل ضخم في وقائعه وأحداثه.
ولست هاهنا أكتب ترجمة لابن لادن أو شرحاً وافياً لحياته، لكني إنما أريد تقويم صنيعه للأهمية البالغة مداها لهذا التقويم خاصة في هذا الوقت، وقد كان ابن لادن شخصية من النوع الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، فلابد من تقويم مسيرة حياته والنظر فيها بعين الإنصاف بدون إفراط ولا تفريط، وهذا أمر صعب شاق لكني سأحاول أن أصيب شيئاً منه والله الموفق.
ابن لادن: ماله من مزايا:
قد كان لأسامة - رحمه الله تعالى - مزايا عديدة، أحسبه كذلك والله حسيبه منها:
أولاً: هو شخص ضحى في سبيل الله بأشياء كثيرة، ضحى بماله الوفير، وهو أحد الأثرياء الكبار.
وضحى بسمعته حيث إنه قد اتهم باتهامات عديدة.
وضحى بوقته فقد بذل من حياته زيادة على ربع قرن متنقلاً بين عدة بلاد، وضحى بأمنه واطمئنانه فقد عاش مدة طويلة مهدداً بالقتل، محاصراً من كل جانب، ثم ختم هذه التضحيات بالتضحية بحياته حيث خُتم له بالشهادة إن شاء الله، وهذا أمر طالما تمناه، رحمه الله تعالى.
والناظر للحركة الإسلامية اليوم ولدعاة الإسلام لا يكاد يجد مثيلاً لهذه التضحية إلا في أشخاص قلائل معدودين، وهذا هو - على التحقيق- سر تأخر الحركة الإسلامية عن بلوغ كثير من أهدافها؛ إذ لا يوصِل إلى المعالي إلا التضحيات الجسام والبذل العظيم.
ثانياً: إذكاء شعلة الجهاد في النفوس:
كان لابن لادن أثر كبير في إذكاء شعلة الجهاد في نفوس كثير من المسلمين، خاصة الشباب، فقد كان من المشاركين الأوائل العرب في الجهاد الأفغاني، وكان له عمل كبير في دفع آلاف بل عشرات الآلاف من العرب إلى ساحات الجهاد في أفغانستان، وسهّل ذلك بماله وجاهه وعلاقاته.
وقد كان لصلته المبكرة بالمجاهد الكبير عبدالله عزام - رحمه الله تعالى- أثره في دفع عجلة الجهاد في الأمة قدماً إلى الأمام، ثم لما استشهد الشيخ عبدالله عزام تولى ابن لادن قيادة التوجيه للجهاد مدة طويلة حتى قبضه الله تعالى إليه، وكان لتسجيلاته الصوتية والمرئية أثر كبير في نفوس الشباب من أتباعه وغيرهم.
ثالثاً: استخفافه بالقوة الصليبية الصهيونية:
كان ابن لادن رحمه الله تعالى يشيع الطمأنينة في نفوس أتباعه وكثير من الناس خاصة الشباب بما يبديه من استخفاف كبير بالقوة الصليبية والصهيونية، والتحدي المستمر لها والتهديد الدائم لها، ومحاولة إثارة الشعوب الغربية على حكوماتها، وهذا الاستخفاف الدائم كان مثيراً لأعدائه، غائضاً لهم.
وفي الوقت نفسه كان ذلك الاستخفاف من أكبر عوامل الاطمئنان لأتباعه وغيرهم، وهذا مهم جداً في إزالة الخوف من قلوب بعض المسلمين من أعدائهم، وفي الوقت نفسه هو مهم في الحرب النفسية التي كان يخوضها ابن لادن ضد القوى الصليبية واليهودية، وقد كان يذكرنا باستخفاف ربعي بن عامر برستم الفارسي ومجلسه، واستخفاف الصحابة - رضي الله عنهم - بمظاهر الأبهة والفخامة التي كان عليها أعدائهم.
رابعاً: الهدوء الكبير الذي يميز شخصيته:
كان الهدوء الكبير الذي كانت عليه شخصية ابن لادن عاملاً مساعداً لإقناع كثير من الناس بما كان يفعله ويقوله، فلم يكن متهيجاً ولا صاخباً ولا صائحاً ولا عصبي الطبع ولا حاد المزاج بل كان يوصل ما يريد فعله أو قوله بهدوء شديد مميز، وهذا عامل مساعد في إنجاح ما يريد صنعه أو قوله.
خامساًً: الظهور المتواصل في وسائل الإعلام:
قد كان لابن لادن - رحمه الله تعالى - ظهور متواصل في وسائل الإعلام لا يكاد ينقطع عن أتباعه وسائر الناس إلا ويظهر من جديد، وهذا مهم جداً في إنجاح مقاصد أي داعية لأي شيء يريده، نعم إن الغرب ضخمه جداً وصوره بصورة تفوق حقيقته - في رأيي - لغرض يريده، ولكن يبقى حضوره الإعلامي علامة فارقة ميزته عن سائر أمثاله ممن نهجوا نهجهم، ويقاربه في هذا تابعه الطبيب أيمن الظواهري لكن لم تكن له شعبية ابن لادن ولا أثره في الشباب كأثر ابن لادن.
ابن لادن: ما عليه من ملاحظات:
ابن لادن بشر يصيب ويخطئ، وقد كان له جملة من الصواب والعمل الصالح، وعليه عدد من الملاحظات، فمن ذلك:
أولاً: تغير منهجه الدعوي الوسطي:
قد كان ابن لادن معروفاً بمنهج دعوي وسطي لا غبار عليه في الجملة، لكنه لما تنقلت به الأحوال بعد ذلك، واحتك بأشخاص جهاديين من مصر خاصة - وعلى رأسهم الطبيب أيمن الظواهري- لوحظ على منهجه تغير وابتعاد عن الوسطية التي كان عليها والاعتدال الذي عُرف به، ولذلك شواهد عديدة من خطابه وخطاب المحيطين به المحسوبين عليه.
ثانياً: مناصبته العداء لقادة جهاديين:
وهذه مشكلة عويصة، وآفة كبيرة ولا أريد الخوض في تفصيلاتها لكني أقول إنه ناصب قادة تاريخيين للجهاد في أفغانستان العداء لأمور ارتآها، ولو أحسن التفاهم معهم، وجَوّد العلاقة بهم فلربما تغير التاريخ في تلك المنطقة بل في غيرها من المناطق المحيطة بها، لكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، والله أعلم.
ثالثاً: تورطه في تفجيرات في بلاد عربية وإسلامية:
قد أعلن ابن لادن بنفسه مراراً مسؤوليته عن أعمال تفجير وقعت في بلاد عربية وإسلامية وأوقعت ضحايا مسلمين، وهذا أمر تساهل فيه - عفا الله عنه وغفر له- وتمادى به حتى أعلنه مراراً ورآه جزءاً من صنيعه في عقاب الأنظمة التي عاداها، وهذا أمر لا يحل شرعاً، ولا برهان على فائدته في التغيير الذي أراده، بل على العكس كان لصنيعه أثر كبير في تحرير الصليبيبة العالمية والصهاينة ضده وضد منظمته "القاعدة" مما عجل بمواجهتهه وإنهائه.
رابعاً: الانطباع السيء في أذهان كثير من الكافرين:
الإسلام دين الدعوة والهداية والإرشاد والتوجيه، ويطمع الدعاة في الوصول إلى عقول وقلوب الناس أجمعين، وذلك إنما يكون تحت مظلة قوله تعالى: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"، ولا جدال أن الجهاد جزءٌ من منهج الإسلام بل هو ذروة سنام الإسلام لكنه ليس كل شيء في الإسلام.
وقد ظهر ابن لادن وانتشر أمره، وعظمة شهرته من باب الجهاد – بالطريقة التي يراها هو للجهاد وليس كلها موافقة للشريعة كما بينت آنفاً- وانطبع في أذهان كثير من كفار الأرض أن الإسلام هو هذا الذي يدعوا إليه.
ويعمل من أجله الأعمال التي صنعها واشتهرت وانتشرت في الأرض فأدى هذا إلى نفورهم من هذا المنهج، وساعد في ذلك التحريض الصليبي والصهيوني العالمي ضده، وأظن - والله تعالى أعلم- أن ابن لادن بصنيعه هذا أساء في عرض الإسلام بهذه الطريقة التي كان ضررها أكثر من نفعها.
خامساً: تقليله من شأن الحركات الإسلامية:
قد كان ابن لادن - ¬غفر الله له- يقلل من شأن الحركات الإسلامية ويرى أنهم ارتضوا القعود منهجاً لهم عوضاً عن الجهاد العسكري، وهذا واضح في خطابه ومنهجه، وهذا أضر كثيراً بأتباعه الذين تبعوه في نظرته هذه، بل تخطوه وزادوا عليه فيها واستمرأوا الهجوم على الحركات الإسلامية وقادتها، والتقليل من شأنها إلى الغاية، مما كان له أثر سيء في تفريق الصف الدعوي الإسلامي، والله أعلم.
هذا كان شيئاً يسيراً في تقويم مسيرة ابن لادن - رحمه الله تعالى وغفر له- وهو لا يغني عن دراسات موسعة موثقة إنما هو جهد المقل، ونظرة العَجِل.
ومهما قيل في ابن لادن فإنه سيظل معلماً من معالم التاريخ المعاصر، وسيظل تراثه الواسع ملهماً لأجيال عديدة، وهو تراث مهم في باب تقويم الحركة الإسلامية المعاصرة بأطيافها الكثيرة وامتداداتها الواسعة وتوجهاتها المختلفة.
ومهما قيل فيه من قبل معارضيه وشانئيه ومخالفي منهجه فسيبقى على ممر الأيام مثلاً مضروباً لأصحاب الثراء والوجاهة كي يبدلوا ويضحوا ويقدموا لدينهم شيئاً مما قدم، رحمه الله تعالى وغفر له.
الكاتب: الدكتور محمد موسى الشريف
المصدر: موقع التاريخ